سورة الكهف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)}.
التفسير:
الصعيد: التراب.. والزّلق: الذي لا نبات فيه.. والحسبان: المبالغة في الحساب، والمراد به أنه من تقدير اللّه، وأنه واقع بحساب وبقدر.
غورا: أي غائرا، قد انسرب في باطن الأرض.
فى هذه الآيات مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى لرجلين، أحدهما مؤمن باللّه، والآخر كافر به.
فالرجلان بهذا الوضع يمثلان الإنسانية كلها، إذ كان الناس أبدا فريقين:
مؤمنين، وكافرين.. مستجيبين لدعوة الرسل مؤمنين بها، أو منكرين لها، خارجين عليها.. وإذ كان ذلك من كسبهم واختيارهم، فقد استحق كل أن ينال جزاء ما عمل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
والرجلان اللذان تعرضهما الآيات، يقف كل منهما في الجانب الذي اختاره، وحرص عليه، واعتزّ به.
أما الكافر.. فقد وسّع اللّه له في الرزق.. فجعل له اللّه سبحانه وتعالى: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ} وهاتان الجنّتان قد تكونان في قطعتين من الأرض، تنعزل كل منهما عن الأخرى.. فهما في مرأى العين جنّتان، وقد تكونان جنّة واحدة، ولكنها لا تساع رقعتها، تبدو وكأنها جنتان.
والرأى الأول هو المقول به هنا، حيث جاء حديث القرآن عنهما باعتبارهما جنتين، لكل جنة كيانها، واعتبارها.
وقد حفّت هاتان الجنتان بالنخيل، ليكون ذلك أشبه بسور لهما.. إلى جانب الثمر الذي يجىء من هذه النخيل.
وليس هذا، فحسب، فإن بين أشجار العنب زروعا أخرى، من حبّ، وفاكهة، وغيرها.. فهما إذن جنّتان في أعدل بقعة.. تربتها خصبة، وماؤها كثير.. {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً}.
ولهذا كان ثمرهما كثيرا مستوفيا: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم ينقص شيء مما ينبغى أن تعطيه الأرض الطيبة من ثمرات ما يغرس فيها.. ثم إلى جانب هذا كان للرجل مال آخر يثمّره وينمّيه، كالأنعام، وغيرها: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}.
هذا هو الرجل الكافر.. صاحب خير كثير أفاضه اللّه عليه، ورزق واسع ابتلاه اللّه به.. وكان شأنه- لو عقل- أن يحمد اللّه، ويذكر ما ألبسه من نعمه.
ولكنه لم يفعل هذا، بل كفر باللّه، ولم يوجه إليه وجها، أو يرفع إليه بصرا.
وليته وقف عند هذا، بل لقد استبدّ به الغرور، وركبه الطيش والنّزق، فأخذ يكيد للمؤمنين، ويغريهم بالضلال، ليفتنهم في دينهم.. إذ كانوا مع إيمانهم باللّه، في فقر ومعسرة، وهو مع كفره باللّه، في هذا الغنى الواسع، وذلك الثراء العريض!! فلم الإيمان بهذا الإله إذن؟ وما جدوى التعلّق به إذا كان المتعاملون معه، على تلك الحال من الفاقة والبؤس؟ هذا هو المنطق الذي يبشرّ به هذا الكافر، في الناس، ويحاجّ المؤمنين به.
{فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً}.
هذا موقف من مواقف الفتنة، يلقى بها هذا الكافر بين عينى المؤمن.
إنه أكثر من صاحبه المؤمن مالا وأعزّ نفرا! ولا سبب لهذا إلا لأنه كافر.
وصاحبه مؤمن! ذلك هو منطق من أعمى اللّه أبصارهم وختم على قلوبهم.. يقول لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً} ولو كنت على ما أدين به لكنت مثلى، ولكان لك مالى، من مال، وبنين، وجاه، وقوة! ولم يقف الضلال بهذا الضّال عند هذا، بل لقد أخذ بيد صاحبه، يطوف به في جنتيه، حتى يريه بعينيه هذا النعيم الذي ينعم به من كفر باللّه!!.
ويمضى الرجل المؤمن معه في رحاب هذه الجنات العريضة.. ولعلّ صاحبه قد هيأ له أكثر من مجلس فيها، وأعدّ له أكثر من لون من ألوان الطعام من ثمارها.!
وينتظر الكافر أن تتحرك في نفس صاحبه شهوة إلى هذه الجنات، أو يبدو في عينيه إكبار وإعظام لها ولصاحبها- فلا يرى شيئا من هذا كلّه، يدخل على نفس صاحبه، أو يقارب ما بينه وبينه قيد أنملة.
وهنا، يجىء الكافر إلى صاحبه من ناحية أخرى، فيسمعه بأذنه ما رآه بعينه، لعل الكلمة هنا تفعل مالا تفعله الصورة.. واستمع إلى تصوير القرآن لهذا المشهد، وهو يصف الرجل وقد دخل بصاحبه إحدى جنتيه:
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً}.
هكذا يكيد هذا الضالّ لصاحبه، ويجىء إليه بما يظن أنه يملأ قلبه حسرة وحسدا.. فيتحدث عن جنّته هذا الحديث الذي يتيه فيه فخرا وزهوا، بما يملك بين يديه، من ثراء طائل، وجاه عظيم.. إنه ينظر إلى جنّته كأنه يراها لأول مرة، فيقول: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً}.
ثم ينظر في وجه صاحبه ليرى وقع هذه الكلمة على مشاعره، فيرى استنكارا وامتعاضا، وتعجبا، من هذا الغرور الذي يذهل صاحبه عن بدهيّات الأمور.. فهل رأى هذا الأحمق الجهول، فيما يدور في دنياه هذه، شيئا لا يبيد أبدا؟ وهل هذه أول جنّة كانت في هذه البقعة؟ ألا يجوز أنها قامت على أنقاض دور كانت عامرة، أو جنات كانت خيرا من جنته؟
ولكنّ هذا الغوىّ الضالّ لا يرعوى عن غيّه وضلاله، ولا يجد فيما رأى على وجه صاحبه من أمارات الاستنكار، والاستهجان، ما يمسك لسانه عن هذا الهذيان.. فيتبع قولته: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} بقولة أشنع منها، وأمعن في الضلال.. فيقول: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}! وهكذا يخلى شعوره من كلّ خاطرة تخطر له، عما وراء هذا العالم المادىّ الذي هو غارق فيه!! ويتفرّس مرّة أخرى في وجه صاحبه، ليرى وقع هذه الكلمة عليه، إذ هى ركيزة إيمانه، وأساس معتقده، بعد الإيمان باللّه..! وربّما كرّر هذه القولة مرة ومرة: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}!.. وذلك إنما يقوله ويكرره إمعانا منه في الكيد لصاحبه، والسخرية به، وبالدين الذي يدين به.!
ثم لا يقف هذا الآثم الجهول عند هذا الحدّ، بل يقطع على صاحبه تلك الخواطر التي تنبعث من إيمانه، والتي تمسك به على طريق الإيمان، وتبعث في نفسه العزاء بما سيلقى في الآخرة من جزاء حسن عند اللّه، ذلك الجزاء الذي يزرى بكل ما يملك الناس جميعا في هذه الدنيا من مال ومتاع- فيقول لصاحبه:
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً}.
فلست وحدك يا صاحبى الذي يذهب بحظّه الذي يؤمّله في الحياة الآخرة.. فأنا كذلك سيكون لى في الآخرة- إن كانت هناك آخرة- حظ خير من حظك، ومقام خير من مقامك.. فكما أنا وأنت في هذه الدنيا على ما ترى، كذلك سنكون في الآخرة على هذا الحال.. أنا صاحب جنات خير من هذه الجنات.. وأنت كما أنت! فالوضع هناك هو الوضع هنا.. تماما كما ننتقل أنا وأنت من بلد إلى بلد.. لن يغيّر هذا الانتقال من حال أىّ منا شيئا! وهكذا يذهب الضلال بأهله إلى تلك المذاهب الممعنة في السّفه والجهالة، فيرون حقائق الأمور مقلوبة على وجوهها، وهم في هذا الوضع المنكوس الذي أقاموا فيه رءوسهم مقام أرجلهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر] ويقول سبحانه: {لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [49- 50: فصلت].
وهنا يأخذ الموقف بين الرجلين وضعا آخر.. فيتكلم المؤمن، ويستمع الكافر.
{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}؟.
فهذا هو محصّل ما وقع في نفس المؤمن من هذا الحديث الطويل، الذي تحدث به الكافر، صاحب الجنتين، المدلّ بجاهه وترائه.. إنه لم يستطع بحديثه هذا، وبما استعرض على الطبيعة من خيرات جنتيه، وما يؤمله في الآخرة من جنات خير منهما- لم يستطع أن يغيّر من موقف صاحبه، أو يؤثر في إيمانه شيئا.. فيلقاه صاحبه بما اعتاد أن يلقاه به، من إنكار عليه لهذا الضلال الذي هو غارق فيه، {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟}.
وفى توجيه الخطاب إليه بصيغة الماضي.. هكذا: {أَكَفَرْتَ} بدلا من صيغة الحاضر: {أتكفر} إشارة إلى أن هذا المنكر الذي هو فيه، ليس أمرا مستحدثا عنده، بل هو داء قديم، سكن في كيانه، واستقر بين مسرى الدم من عروقه، لا يغيره شىء.
ولو كان ذلك مما يمكن أن يتغيّر لكان له في هذا الموقف الذي وقف من جنتيه، ورأى فيهما ما رأى من آيات اللّه وآلائه- ما يخفق له قلبه، وترقّ به مشاعره.
وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينا، فوليدا، فطفلا، فرجلا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيها وعجبا- في هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال.. وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه.. ثم- وبسرعة خاطفة أيضا- يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها.. فيقول:
{لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.. وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}.
فها هو ذا أنا.. أنا هو الذي تراه أيها الصاحب والذي عرفت موقفه من قبل.. {اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أما أنت فكما رأيت وعلمت!.
فالضمير: {هو} كما أحبّ أن أفهمه- هو ضمير الغيبة، المقابل لضمير الحضور {أنا} المدغم في حرف الاستدراك لكن.
وبهذين الضميرين: ضمير الحضور، وضمير الغيبة، تتحقق للرجل المؤمن صورتان: صورة حاضرة له بعد أن دخل الجنتين، مجدّدة للصورة الماضية التي كانت له قبل أن يدخل مع صاحبه جنتيه.. فهو هو لم يتغير منه شىء، بعد تلك التجربة المثيرة التي أدخله فيها صاحبه، وأراد بها أن يجرّه وراءه، في طريقه القائم على الكفر والضلال!.
وإذ ينكشف كل من الرجلين لصاحبه على هذا الوجه.. يعود المؤمن إلى صاحبه، ناصحا هاديا، لا كما جاء إليه صاحبه مضلّا مغويا.. فيقول له:
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ.. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً.. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً.. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}.
وفى هذا العرض، يكشف المؤمن لصاحبه الموقف الذي كان جديرا به أن يقفه، حين دخل جنّتيه، ورأى فيهما ما رأى من بديع صنع اللّه، وروعة قدرته.. فيقول: {ما شاءَ اللَّهُ} أي هذا ما شاءه اللّه وقدّره لى.. ولو شاء غير هذا لكان.. فسبحانه له الحمد، والشكران.. وليس لى من هذا الذي بين يدى شىء.. فأنا العاجز الضعيف، الذي لا يملك من أمره شيئا.. {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
فما لم يكن للإنسان عون من اللّه، فهو الضائع المخذول.
ثم إذ لم يكن من {الكافر} أن يقول هذا القول، ولم تحدثه نفسه بشىء منه.. لوّح له صاحبه بهذا النذير الشديد، وقرعه بتلك القارعة المزلزلة:
فقال له: انظر إلىّ {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ}.
فذلك ليس بالذي تعجز عنه قدرة اللّه.. فاللّه سبحانه يملك الناس ويملك ما بأيدى النّاس، وبسلطان قدرته، وبتقدير حكمته، يبدّل أحوال الناس كيف يشاء، فيفقر ويغنى، ويذلّ ويعزّ، ويضع ويرفع.. فإذا كنت كما ترانى الآن أقلّ منك مالا وولدا، فغير بعيد على اللّه أن أصبح أو أمسى، فإذا أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا.
وليس الأمر واقفا عند هذا، بل إنه من الممكن أن يقع في يدىّ من المال والبنين أكثر مما معك، ثم إن هذا الذي معك يفرّ من بين يديك، فتلتفت فلا تجد منه شيئا.
وانظر إلى قوله تعالى: {فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}.
ثم أمعن النظر في هذا العطف بين الفعلين: {يؤتين} و{يرسل} حيث تتجلّى من ذلك قدرة اللّه في التبديل والتغيير، ففى الحال التي يرسل اللّه فيها رحمة من رحمته إلى هذا الفقير المعدم، فيلبسه ثوب الغنى، يرسل على هذا الغنىّ ما يذهب بغناه، وإذا هذه الجنة الزاهية الزاهرة ينقضّ عليها {حسبانا} من السماء، أي جائحة، تجىء فجأة، وتهبّ من حيث لا يدرى أحد، فتعصف بها، وتجعلها رمادا! أو يغور هذا الماء المتدفق من هذا النهر الذي يقيم حياتها، فإذا هى وقد جفت شرايين الحياة منها، وأخذت تموت موتا بطيئا بين عينى صاحبها الذي لا يملك لدائها دواء.
والذي تذهب نفسه حسرة مع كل يوم يطلع عليها وعليه.
وقد صدق حدس الرجل المؤمن، وصحّ ما توقعه لصاحبه هذا الذي أطغته النعمة، فنصب للّه الحرب، يقاتل أولياءه، ويصدّهم عن دينه، ويضلّهم عن سبيله.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ.. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها.. وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً}.
وهكذا تجىء الخاتمة، وتحقّ كلمة اللّه على القوم الظالمين.. وإذا هذه الجنة وقد أحيط بها، وشملها البلاء من كل جانب، وإذا صاحبها يقف على أطلالها كما يقف الأب على أشلاء أبنائه، وقد نزلت بهم نازلة أخذتهم جميعا.
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} حسرة وكمدا.. {عَلى ما أَنْفَقَ فِيها} من مال وجهد {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها}.
لا ترقّ لنحيبه، ولا تستجيب لصراخه، بل تظل هكذا خاوية على عروشها، لا تريه منها إلا هذا الموات الذي يزيد في حسرته، ويضاعف من آلامه.
فقوله تعالى: {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} حال كاشفة عن حاله، وهو يندبها، ويقطّع نفسه حسرة عليها، وهى بين يديه جثة هامدة، لا يجدى معها هذا العويل الصارخ، وهذا النحيب المتصل.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} هو حكاية لقوله الذي سيقوله يوم القيامة، يوم يساق إلى موقف أشدّ هؤلاء، وأقسى قسوة من هذا الموقف الذي هو فيه إزاء جنته تلك الخاوية على عروشها.. ففى هذا اليوم تشتد حسرته، ويتضاعف ندمه، ويقول فيما يقول: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
.. ولكن أنّى له أن يصلح ما أفسد؟ لقد فات وقت الندم.
وهل نفعه بكاؤه، وأغنت عنه حسرته في الدنيا، حين أخذ اللّه جنّته، وأرسل عليها حسبانا من السماء، فأصبحت خاوية على عروشها؟ إن يكن ذلك قد ردّ عليه ما فات، فقوله يوم القيامة: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} قد يكون له أثر في إصلاح ما أفسد.. وأما وقد هلكت جنته إلى غير رجعة، فإنه هو أيضا هنا في الهالكين المعذبين في النار، من غير أمل في الخروج مما هو فيه.
ولو كان قوله: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
لو كان هذا قولا قاله في دنياه- كما يقول بذلك بعض المفسّرين- لكان له في هذا القول رجعة إلى اللّه، ولا نتقل به من الكفر إلى الإيمان، فإنه لا زال في دار عمل.
وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً}.
هو تعقيب على موقف هذا الكافر الذي لجّ به كفره.
فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى.. أما في الأولى فقد أهلك جنته أمام عينيه وبين أهله وقومه، وأما في الآخرة: فهو إلى مصير أسوأ من هذا المصير الذي أحرق كبده، وأذلّ كبرياءه.. وليس له هنا أو هناك من فئة ينصرونه، ويحولون بينه وبين أمر اللّه فيه.. {وَما كانَ مُنْتَصِراً} هو بذاته وبما كان يجده في كيانه من عزة وقوة.
وقوله تعالى: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً}.
{هنالك}: الإشارة هنا إلى يوم القيامة، وإلى كل موقف يكون بين الحق والباطل.
والولاية: النصرة، والتأييد، والعون.
والمعنى: أنه في يوم القيامة، حيث يشتد البلاء، ويعظم الكرب، وتدور أعين الناس في كل مدار، باحثين عمن يدفع عنهم هذا البلاء، ويأخذ بيدهم إلى طريق الخلاص والنجاة.. فيتلفت الصديق إلى صديقه، والابن إلى أبيه، والأخ إلى أخيه، والعابد إلى معبوده الذي كان يعطيه كل ولائه، ويفوض إليه كل أموره.. ولكن لا أحد يسأل عن أحد، ولا أحد يعنيه شأن أحد.. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
والمؤمنون باللّه وحده، هم الذين يجدون ولاءهم للّه سبحانه، هو الذي قد خفّ لنجدتهم، في ساعة العسرة، وأخذ بيدهم إلى جانب النجاة.. فكل ولىّ كان للإنسان في دنياه قد فرّ عنه في هذا الموطن، أما من كان ولاؤه للّه، فقد وجد هذا الولاء إلى جانبه، مؤيدا له، وناصرا! فالولاية الحقّ، هى ما كانت للّه، حيث لا تخذل صاحبها أبدا.
أما ولاية غير اللّه، فإنها سراب خادع، إذا جاءه الإنسان لم يجده شيئا.
والضمير {هو} يعود إلى معنى الولاية، وهى الإيمان باللّه، واللجأ إليه، فذلك خير {ثوابا} أي جزاء وخير {عقبا} أي عاقبة، حيث الجنة والنعيم المقيم.


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}.
فى الآيات السابقة على هذه الآية، ضرب اللّه مثلا لرجلين، أحدهما كافر، والآخر مؤمن، وهذان الرجلان- كما قلنا- يمثلان الإنسانية كلها، فالناس جميعا رجلان: كافر، ومؤمن.. والكافر إنما كانت آفته تلك، من واردات الحياة الدنيا، وزخارفها، والاغترار ببهجتها وزينتها.. وهذا ما كشفت عنه الآيات السابقة، في المحاورة التي كانت بين الكافر وصاحبه، واغتراره بما بين يديه من مال وبنين.
وفى قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} الآية، ما يكشف عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم باللّه رب العالمين.
فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضرّ، وأزهر، وأثمر.
ثم جاء الوقت الذي يحصد فيه.. فإن لم يحصد، قطعت الأرض صلتها به.
فصار هشيما، وحطاما. تذروه الرياح كما تذرو التراب!- {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردّهم بشرا سويّا!.
قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
تشير الآية إلى أبرز لونين وأزهاهما في هذه الحياة الدنيا، التي يفتن الناس بها، ويشغلون بها عن اللّه، وعن الحياة الآخرة، وهما المال والبنون.. وقدم المال على البنين، لأنه المطلب الأول للإنسان، فكل إنسان طالب للمال، وليس كل إنسان طالبا للولد.. فكثير من الناس لا يطلبون الأولاد، بل يعيشون بغير سكن إلى زوجة، ولكنهم جميعا لا يستغنون عن طلب المال.. ومع هذا فإنه إذا حصل الإنسان على الولد، تعلق قلبه به، وكان الولد عنده مقدّما على المال! فالمال والبنون، هما أشدّ مظاهر الحياة فتنة للناس، وأكثرها داعية لهم، وأقواها سلطانا عليهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [15: التغابن].
وفى قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا} إشارة أخرى إلى ما هو خير من الأموال والأولاد، مما يمكن أن يحصّله الإنسان في هذه الحياة الدنيا.. وتلك هى {الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} التي هى الإيمان باللّه، الذي هو رأس الأعمال الصالحة التي أمر اللّه بها من عبادات، ومعاملات، وأخلاق.. فهذا هو الذي يبقى للإنسان، ويجده حاضرا يوم القيامة، أما ما سواه فهو سراب، وقبض الريح لا يجد الإنسان منه شيئا.. {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
ووصف الباقيات بالصالحات، هو عزل لها عن باقيات غير صالحات، وهى المنكرات التي عليها أهل الضلال والكفر، إذ هى باقية لهم يجدونها يوم القيامة، ويجدون منها الحسرة والندامة قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} الواو هنا للاستئناف، لعرض صورة للحياة الآخرة، التي أشارت إليها الآيات السابقة تلميحا في قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} حيث أن هذه الباقيات الصالحات لا تتجلّى آثارها كاملة، إلا يوم القيامة.
وفى هذا اليوم تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.. فتسيّر الجبال وتزول عن مواضعها، حيث تسوّى بالأرض. وإذا الأرض كلها بارزة أي عارية، لا يخفى منها شىء، وإذا الناس جميعا قد حشروا بعد أن خرجوا من قبورهم، ولم يترك منهم أحد.
قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}.
بيان لعرض الناس على اللّه بعد الحشر، وفى هذا العرض يكون الحساب، ثم الجزاء، حيث يلقى كل عامل جزاء ما عمل.. من خير أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [7- 8: الزلزلة].
وفى قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا}.
إشارة إلى أن هذا العرض الذي يجمع الإنسانية كلها، والخلائق جميعها، هو عرض ينكشف فيه كل إنسان، ويظهر فيه كل مخلوق، فلا يختفى أحد في زحمة هذه الجموع الحاشدة.
فهم جميعا في عين القدرة صفّ واحد، يأخذ كلّ مكانه، ويلقى حسابه وجزاءه.. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} [18: الحاقة].
وفى قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
إشارة إلى أن الناس يجيئون يوم القيامة ولا شيء معهم، مما كان لهم في الحياة الدنيا، من مال وبنين، وما كان بين أيديهم من جاه وسلطان.. لقد جاءوا عراة حفاة، عزلا من كلّ شىء، ضعافا، مجردين من كل قوة، كما ولدوا عراة، حفاة، لا شيء معهم!- وفى قوله تعالى: {أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
إشارة إلى الخلق الأول للإنسان، وهو خلق الميلاد.. وفيه إشارة أيضا إلى أن الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى الصبا والشباب، والكهولة والشيخوخة.. وإلى ما يجدّ للإنسان في هذه الأطوار من أحوال التملك، والتسلط، وغيرها- إنما هى جميعها من تدبير اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، ومن صنيعه به.. فكأنه في تنقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، هو خلق جديد له.. غير الخلق الأول الذي ولد به! ولكن البعث إنما يكون على صورة أشبه بصورة الميلاد، من حيث التعرّى من كل شيء ملكه الإنسان في الدنيا.
وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}.
هو خطاب خاص موجّه إلى أولئك الذين أنكروا البعث: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [38: النحل].
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
الكتاب هنا، هو الكتاب الذي سجّلت فيه الأعمال- كل الأعمال، الصالحة، والسيئة.. كما يقول سبحانه: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [10: التكوير].. حيث ينكشف لكل إنسان عمله، من خير أو شر.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [6- 8: الزلزلة].
ويعجب الّذين كانوا لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، مما يطلع عليهم به هذا الكتاب.. لقد أحصى عليهم كل شىء.. ويقولون: {ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها}.
إنهم ما كانوا يحسبون أن شيئا من هذا سيقع، وأنه إذا وقع فلن يكون على تلك الصورة التي فضحت كل شيء كان منهم في دنياهم.. {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية].


{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد عرضت الناس بين يدى اللّه يوم القيامة، فإذا هم مؤمنون، وكافرون.. مؤمنون قد آمنوا باللّه، واستجابوا لدعوته على يد رسله، وكافرون قد خرجوا عن أمر اللّه، وعصوا رسله.. وهنا صورة في الملأ الأعلى، تشبه هذه الصورة التي وقعت في الأرض.
حيث جاءت دعوة اللّه إلى الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا امتثالا لأمر اللّه.. ولكن كائنا من كائنات الملأ الأعلى قد غلبت عليه شقوته، ففسق، أي خرج عن أمر ربّه، وأبى أن يسجد!! فطرده اللّه من الملأ الأعلى، وألقى به إلى العالم الأرضى، صورة للتمرد والعصيان، ودعوة من دعوات الإغواء والإفساد والفسوق عن أمر اللّه، إلى جانب الدعوة التي يحملها رسل اللّه إلى الناس بالهدى والإيمان.
وفى قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟} تحذير للناس من هذا العدوّ، الذي لعنه اللّه وطرده من رحمته- تحذير لهم من أن ينقادوا له، فمن انقاد له فقد فسق، أي خرج عن أمر ربّه، كما فسق هذا الرجيم الملعون عن أمر ربّه، وكان وضعه في المجتمع الإنسانى المؤمن، كوضع إبليس من الملائكة.
وفى قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} إشارة إلى هذا الخسران المبين الذي لحق أهل الضلال الذين استغواهم الشيطان فغووا، وخيّروا بين الهدى والضلال، وبين اللّه والشيطان.. فانحازوا إلى جانب الشيطان وركبوا معه مركب الغواية والضلال.
قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} ضمير النصب في قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ} يراد به أولئك المعبودون، الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه! فهؤلاء المعبودون أيّا كانوا، هم ممن زيّن الشيطان للنّاس عبادتهم، حيث أضلّهم، وأعمى أبصارهم، ثم دعاهم فاستجابوا له، وعبدوا من المعبودات من صوّره لهم، وأراهم فيه الإله الذي يعبدونه.. ومن هنا صح أن يكون كلّ من عبد غير اللّه، عابدا للشيطان، أصلا، وإن كان في واقع الأمر عابدا صنما، أو إنسانا، أو ملكا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ.. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [40- 41: سبأ].
وفى قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تشنيع على أولئك الذين يعبدون غير اللّه، ويستجيبون لدعوة إبليس، وذريته.. فإن إبليس لم يكن هو وذريته إلا خلقا من خلق اللّه، وأنهم ليس لهم سلطان مع اللّه، فما شهدوا خلق هذا الوجود، وما فيه من سموات وأرضين، بل إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم.. إذ كيف يشهد المخلوق خلق نفسه؟ وإذن فما سلطان هؤلاء المخلوقين على الناس، وهم خلق مثلهم؟ وكيف يقبل مخلوق أن يستدلّ لمخلوق مثله، بل ويعبده، من دون اللّه؟.
وفى قوله تعالى: {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} عرض لإبليس وذريته في هذه الصورة الساقطة من بين المخلوقات جميعا، وأنهم مضلّون، مفسدون.. وأنه إذا جاز أن يتخذ اللّه سبحانه وتعالى من خلقه عضدا، أي معينا- وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا- فإنه لن يتخذ أرذل خلقه، وأبعدهم من رحمته.. إنه لا يستقيم أبدا أن يقرّب الإنسان أبغض الناس إليه، ويتخذهم أعوانا له، وبين يديه من هم أحباؤه، وأصفياؤه، وأهل ودّه؟ فكيف باللّه سبحانه وتعالى، وبحكمته وعلمه بخلقه؟
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}.
الموبق: المهلك، وهو هنا النار التي يلقى فيها المشركون.
وهذه الآية عرض عام لما يكون بين المشركين، وبين من اتخذوهم شركاء من دون اللّه، حين يجدّ الجدّ، وتقع ساعة الحساب.. عند ذلك ينادى منادى الحق على هؤلاء المشركين: أن ادعوا شركاءكم الذين زعمتم، أي الذين اصطنعتموهم من مزاعم أوهامكم وظنونكم.. {فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}.
بل أنكروهم، وأنكروا أن لهم صلة بهم.. أو لم يستجيبوا لهم أصلا، إذ كان ما عبدوه وهما باطلا، لا وجود له.. {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي جعلنا بين المشركين وبين من أشركوا بهم {موبقا} أي حاجزا من النار يلقى فيها هؤلاء المشركون، دون أن تمتد إليهم يد من هؤلاء الشركاء الذين كانوا يعبدونهم، ويلقون إليهم بالمودة والولاء، فهذا الذي كان بين المشركين وبين معبوداتهم من ولاء ومودة، قد صار هلاكا، ووبالا، ونارا تلظّى! وفى قوله تعالى: {شُرَكائِيَ} بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، مع أنهم ليسوا شركاءه على الحقيقة- في هذا عرض لتلك الجريمة الشنعاء على أعين هؤلاء المجرمين، ليروا في هذا الموقف ماذا كان منهم من منكر غليظ، إذ جعلوا للّه شركاء! إن ذلك أشبه بعرض جثة القتيل على قاتله، وهو مقود إلى القصاص منه، حتى يعاين من ذلك، الحال التي سيصير إليها، وهى أن يقتل كهذه القتلة! قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً}.
المجرمون هنا، هم هؤلاء المشركون، الذي عرضوا في هذا العرض الذي جمع بينهم وبين من أشركوا بهم من دون اللّه.. فقد أمروا أن يدعوا شركاءهم، فلما دعوهم ولم يستجيبوا لهم، تلفتوا فإذا هى النّار بين أيديهم.. فلما رأوها ظنوا أنهم واقعون فيها.. وقد صدق ظنهم في هذه المرة، وأصبح يقينا واقعا.
إذ لا مصرف لهم عنها، ولا نجاة لهم من الوقوع فيها.

1 | 2 | 3 | 4